الأحد, 12 أكتوبر 2025, 8:02
جامعات ومعاهد نافذة الرأى

د فتحى الشاذلى يكتب : مصر وتكرار التجربة الماليزية فى التعليم الجامعي

هل تستطيع دولة نامية مثل مصر أن تنهض بالتعليم الجامعي؟

دراسة مقارنة مستوحاة من التجربة الماليزية

بقلم أ د فتحي الشاذلى

أستاذ العلاج الطبيعي بجامعة القاهرة

يمثل التعليم الجامعي في العصر الحديث المحرك الرئيسي للتقدم العلمي، والتكنولوجي، والاقتصادي. فهو ليس مجرد مرحلة دراسية، بل هو منظومة تُنتج المعرفة، وتؤهل الكفاءات، وتدفع عجلة التنمية. وفي ظل التحديات التي تواجه الدول النامية، يُطرح السؤال المحوري:

هل تستطيع دولة مثل مصر أن تنهض بمنظومة التعليم الجامعي، وتُحقق قفزة نوعية تجعلها في مصاف الدول الرائدة علميًا وبحثيًا؟

للإجابة عن هذا السؤال، وحتي لا يكون الكلام نظريا نُحلّل تجربة ماليزيا، وهي دولة نامية استطاعت أن تتحول إلى مركز إقليمي للتعليم الجامعي والبحث العلمي، خلال فترة زمنية وجيزة نسبيًا.

أولًا: التحديات التي تواجه التعليم الجامعي في الدول النامية

تشترك معظم الدول النامية، ومنها مصر، في تحديات متعددة تؤثر على جودة وكفاءة التعليم الجامعي، أبرزها:

• ضعف التمويل الموجه للجامعات والبحث العلمي.

• التوسع الكمي غير المدروس على حساب الجودة.

• مناهج تقليدية لا تواكب متطلبات سوق العمل.

• محدودية العلاقة بين الجامعات وقطاعات الإنتاج.

• نقص التدريب والدعم لأعضاء هيئة التدريس.

• هجرة العقول المتميزة.

• ضعف ترتيب الجامعات في التصنيفات العالمية.

• بيروقراطية البحث العلمي وانخفاض عدد براءات الاختراع.

ثانيًا: تجربة ماليزيا في تطوير التعليم الجامعي

1. رؤية وطنية للتعليم العالي

• أطلقت ماليزيا “الخطة الوطنية للتعليم العالي “2015_ 2025″

والتي وضعت أهدافًا طموحة منها:

• رفع جودة التعليم الجامعي.

• زيادة عدد الجامعات المصنفة دوليًا.

• تعزيز الربط بين التعليم وسوق العمل.

• جعل ماليزيا مركزًا إقليميًا للتعليم.

2. التمويل الاستراتيجي وربط الإنفاق بالأداء

• خصصت الحكومة ميزانيات كبيرة للتعليم العالي، لكنها ربطت التمويل بمدى تحقيق الجامعات لمؤشرات أداء واضحة.

• تم تشجيع الجامعات على تنويع مصادر تمويلها، مثل:

• الشراكة مع القطاع الخاص.

• تقديم خدمات استشارية.

• استقطاب طلاب أجانب.

3. تطوير البرامج والمناهج الجامعية

• تم تحديث المناهج لتتماشى مع الثورة الصناعية الرابعة، ودمجت برامج مثل:

• الذكاء الاصطناعي.

• تحليل البيانات.

• الابتكار وريادة الأعمال.

• تبنت الجامعات النهج القائم على الكفاءات (Competency-Based Education)، وليس فقط المعلومات النظرية.

4. تدويل التعليم الجامعي

• فتحت ماليزيا أبوابها للطلاب الأجانب، حيث أصبحت تستقبل أكثر من 100 ألف طالب دولي سنويًا.

• حصلت الجامعات الماليزية على اعتمادات دولية لبرامجها الأكاديمية.

• أنشأت فروعًا لجامعات أجنبية على أراضيها (مثل جامعة نوتنغهام البريطانية، وموناش الأسترالية).

5. الاهتمام بالبحث العلمي والابتكار

• أنشأت الحكومة الجامعات البحثية (Research Universities) التي تتلقى تمويلًا مميزًا وتُقيَّم سنويًا.

• تم دعم مراكز التميز البحثي، وتشجيع الباحثين على التسجيل لبراءات اختراع ونشر الأبحاث في مجلات مصنفة.

6. تطوير الكوادر الأكاديمية

• أطلقت برامج تدريب وابتعاث لأعضاء هيئة التدريس.

• وفرت بيئة بحثية مشجعة، ورواتب تنافسية لجذب الكفاءات.

• طورت مسارات أكاديمية وإدارية واضحة للترقي.

7. حوكمة الجامعات وإعطاء استقلالية مرنة

• تم منح الجامعات الاستقلال المالي والإداري.

• أُدخل نظام حوكمة ذكية يقوم على التخطيط الاستراتيجي، والتقييم الذاتي، والشفافية.

 

ثالثًا: ما الذي يمكن أن تتعلمه مصر من التجربة الماليزية؟

مصر تمتلك إمكانات بشرية وعلمية ضخمة، منها:

• أكثر من 3 ملايين طالب جامعي.

• مئات الجامعات والمعاهد.

• كفاءات علمية في الداخل والخارج.

لكن النهوض الحقيقي بالتعليم الجامعي يتطلب إصلاحات جوهرية، على غرار ما فعلته ماليزيا. ويمكن تلخيص الخطوات الممكنة فيما يلي:

خطوات نهوض التعليم الجامعي في مصر:

1. وضع رؤية وطنية شاملة للتعليم العالي

• تحدد فيها الدولة دور التعليم الجامعي في خدمة الاقتصاد الوطني.

• تطوير خطة عشرية لرفع ترتيب الجامعات المصرية عالميًا.

2. تحسين التمويل وتوجيهه نحو الجودة

•إعادة هيكلة ميزانية التعليم العالي.

• تطبيق نموذج التمويل القائم على الأداء.

•تشجيع الجامعات على تنويع مصادر دخلها.

3. ربط الجامعات بسوق العمل

•تطوير البرامج الدراسية بناءً على احتياجات القطاعات الاقتصادية.

•توسيع برامج التدريب العملي والميداني.

•دعم التعليم الفني والتطبيقي في الجامعات التكنولوجية.

4. تدويل الجامعات المصرية

•استقطاب الطلاب الأجانب وخاصة من أفريقيا والعالم العربي.

•إنشاء فروع لجامعات دولية في مصر.

•تعزيز الشراكات الأكاديمية والبحثية مع الجامعات العالمية.

5. تحفيز البحث العلمي والابتكار

•تخصيص ميزانية مستقلة للبحث العلمي في كل جامعة.

•إنشاء حاضنات أعمال ومراكز ابتكار داخل الجامعات.

•مكافأة النشر العلمي وبراءات الاختراع.

6. تطوير أداء أعضاء هيئة التدريس

•تحديث برامج إعداد وتطوير الأساتذة.

•تحسين بيئة العمل والرواتب.

•ربط الترقية بالإنتاج العلمي والتدريس الفعّال.

7. إرساء حوكمة جامعية حديثة

• تمكين الجامعات من الاستقلال الأكاديمي والإداري.

• اعتماد نظم إلكترونية لإدارة الجامعات وقياس الأداء.

• تفعيل الرقابة الداخلية والمساءلة المؤسسية.

تُظهر التجربة الماليزية أن النهوض بالتعليم الجامعي ليس حلمًا بعيدًا، بل خيار استراتيجي قابل للتحقق. ولدى مصر من المقومات ما يكفي لتصبح مركزًا علميًا إقليميًا، إذا ما تبنت إصلاحًا حقيقيًا وشاملًا في سياسات التعليم العالي، وركّزت على الجودة، والحوكمة، والابتكار، والتدويل.

ومثلما نهضت ماليزيا من دولة نامية إلى مركز إقليمي للمعرفة، يمكن لمصر أن تتبوأ مكانتها المستحقة، إذا تحوّل التعليم الجامعي من عبء على الدولة إلى محرك للتنمية الوطنية.