أنين الريف المصري
بقلم د. عمرو هاشم ربيع
نائب مدير مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام
قضايا الريف المصري واحدة من أبرز القضايا التي بدت في الآونة الأخيرة تشغل بال الكثيرين في الدولة والمجتمع. الريف بكل مكوناته، والمؤلف من4741 قرية، وتوابعها عدد 30888 عزبة وكفرا ونجعًا تحت وطأة الفقر خاصة في الوجه القبلي. في هذا الموضوع نحاول بإيجاز أن نستعرض أبرز المشكلات التي يعاني منها الفلاح المصري، وكيف يمكن تذليلها.
ففيما يتعلق بالمساكن، وقضية البناء على الأرض الزراعية، فقد ظلت تلك القضية واحدة من أهم القضايا الملحة في إطار المشروع القومي الكبير الخاص بتطوير الريف. إذ تظهر المشكلة في أمرين. الأولى، قيام بعض الفلاحين في السكن في أماكن دون المستوى اللائق بسبب قصر ذات اليد، وهنا تسعى الدولة من خلال اختيارات لمناطق بعينها لتحسين أوضاع هؤلاء، فيما يسمى بمشروع تطوير الريف المصري، من خلال برنامج حياة كريمة.
والثاني، قيام الميسورين من الفلاحين بالبناء على الأرض الزراعية المملوكة لهم بغية لم شمل الأسرة. وهو أمر يساهم بلا شك في تجريف أخصب الأراضي الزراعية. هذا الأمر الأخير ووجه بقوانين كثيرة، لكنها عجزت في إطار ما يشبه لعبة القط والفأر بين الدولة والفلاح، عن الحل الناجز لتلك المشكلة، التي يكمن حلها في استغلال الظهير الصحراوي للمحافظات النيلية، وهذا الظهير إذا ما تم استغلاله لاتسعت الرقعة الزراعية، خاصة مع إجراءات معينة لترشيد استغلال المياه الخاصة بالزراعة في مصر عامة، وبالمناطق الجديدة بالظهير خاصة. ما يطرح في هذا الصدد هو منح الفلاح دون غيره، تقسيمات معينة ومخططة بكفاءة، وتلك الأرض تكن بمساحات معينة (5 أفدنة مثلا) يزرع الفلاح 85% منها ويخصص10% منها لمشروعات إنتاج حيواني، و5% للبناء الرأسي والأفقي. وبالطبع تتضمن تلك المجتمعات الجديدة وجود مجمعات خدمية تعليمية وصحية وخلافه.
مشكلات التقاوي والبذور، هي واحدة من المشكلات الرئيسة التي يعاني منها الفلاح. والتقاوي لا يقصد بها هنا مجرد البذور العادية، بل يقصد منها البذور المتكيفة مع البيئة المصرية، والتي يراد منها أن تكون كثيفة الانتاج، ومتحملة لرطوبة وملوحة التربة، ومتكيفة مع المناخ والطقس، وموفرة في استهلاك مياه الري، ويكون منتجها أو مخرجها جيد. لذلك كله كانت تكلفة شراء الفلاح للتقاوي والبذور كبيرة جدا، ومن ثم كانت الحاجة ملحة لتوفيرها بأسعار مناسبة، ما يشجع الفلاح على الزراعة وإنتاج المحاصيل، ومن ثم توفير قدر معتبر من الغذاء في الدولة.
تستورد مصر، رغم كونها بلد زراعي، وفقأ لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أكثر من 90% من تقاوي الخضر والفاكهة، يقدر قيمتها بنحو 7 مليار جنيه سنويًا.
في مصر توجد مراكز بحوث عديدة لانتاج التقاوي والبذور، ووفقا للمنظمة العربية للتنمية الزراعية يوجد بمصر 65محطة إنتاج تقاوي وبذور، منها 34محطة يملكها القطاع الخاص، و31يملكها القطاع العام، والأخيرة تتبع مراكز البحوث الزراعية والإدارة المركزية لإنتاج التقاوي. جدير بالذكر أن بعض مصانع إنتاج التقاوي والبذور بيعت بأثمان بخسة ضمن مشروعات الخصخصة، ومن ذلك شركة النوبارية.
وباستثناء بذرة القطن، لا تدعم الدولة إنتاج البذور والتقاوي للفلاح، إن أبرز مشروعات تنمية الريف المصري، هي عودة مكانة مصر كمصدر رئيس لانتاج التقاوي والبذور. وفي هذا الشأن يظل الأمل في دعم تشغيل البرنامج الوطني لإنتاج التقاوي والبذور (ووفقًا لما ذكره وزير الزراعة في 18سبتمبر2021) وذلك بالمشاركة مع المعاهد البحثية والشركة الوطنية للزراعات المحمية. كما يبقى الأمل معقودًا على مركز البحوث الزراعية لإنتاج أصناف جيدة من تقاوى الذرة والقمح، وذلك بالتعاون مع البنك الزراعي المصري (بنك التنمية والإنتمان الزراعي سابقًا) الذي أصبح اليوم أداه إرهاق للفلاح، متخليا عن دوره التقليدي لدعمه.
وبالانتقال إلى قضية أخرى، وهي مياه الري، فالملاحظ أن تلك القضية مركزية، ويعاني منها الفلاح، فالكثير من الفلاحين يشكون دوما نقص مياه الري، والكثير منهم تعرضت أرضه للبوار والشراقي، لذلك ينتظر الفلاح دومًا فتح الأهوسة وجريان المياه في الترع حتى يقوم بري أرضه، والتي عادة ما تروى في الوجهين البحري والقبلي مرة كل10أيام في الصيف ومرة كل أسبوعين في الشتاء، ما لم يقم بزراعة المحاصيل الشرهة للمياه كالأرز ثم القصب.
في نهاية عام 2020 أطلقت مصر استراتيجية لإدارة الموارد المائية حتى عام 2050، ضمن محاور الخطة القومية للموارد المائية(2037/2017) بتكلفة 50 مليار دولار كما تذكر الهيئة العامة للإستعلامات، ومن أهم المشروعات التي تقوم الوزارة بتنفيذها حاليًّا ضمن هذه الخطة المشروع القومي لتبطين الترع، ومشروع التحول من نُظم الري بالغمر إلى نُظم الري الحديث، وبرامج التكيف مع التغيرات المناخية، والحماية من ارتفاع منسوب سطح البحر، ومشروعات حصاد الأمطار.
لكن في إطار ذلك كله تبقى الزيادة السكانية قادرة على ابتلاع الكم الأكبر من المياه القادم من خارج الحدود، وتبقى السياسة متحكمة في المشهد، وتبقى مسألة ترك أثيوبيا تقوم بالملء الأول ثم الثاني ثم الثالث لسد النهضة دون حسيب أو رقيب من علامات الاستفهام.
مشكلة أخرى هي مشكلة الأسمدة الكيماوية، والتي تزيد من كم وجودة الإنتاج، ما يجعل أسعار المنتجات الغذائية وغير الغذائية في متناول المستهلكين.
ووفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن مساحة الأراضى الزراعية عام 2019 نحو 9.2مليون فدان. وكانت مصر تنتج عام 15/2016 وفقًا لذات الجهاز أسمدة أزوتية ونتروجينية تقدر إجمالا بـ 15.7مليون طن.
وتلك الكمية يفترض أن تكفي ليس فقط السوق المحلي، بل يتم التصدير منها بإجمالي 1.4مليار دولار، وهو تصدير مقدر بنسبة 65% من إجمالي المنتج.
وفي مصر توجد 17 شركة لتصنيع الأسمدة الزراعية، أشهرها أبو قير وحلوان والإسكندرية والنصر والبحيرة وأبو زعبل والمصرية. وتلك الشركات تورد للحكومة عبر وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، من خلال التسليم للجمعيات الزراعية 55% من انتاج شركات الأسمدة، وذلك مقابل إمداد شركات الأسمدة بأهم مصدر خام لصناعة الأسمدة وهو الغاز الطبيعي.
وكانت الحكومة تقوم ولفترة طويلة بتوزيع حصتها (أنفة الذكر) من الشركات المنتجة على الجمعيات الزراعية مقابل سعر الطن اليوريا المدعم إلى 4800 جنيه أي بسعر 240 جنيه للشكارة. وهذا الرفع قد تم بموافقة رئيس الدولة العام الماضي فقط. أما الشركات المنتجة للأسمدة فهي من تقوم بتوزيع باقي منتجاتها عبر التوزيع للسوق المحلي بالسعر الحر، وعبر التصدير للخارج.
وكان سعر التوزيع الحر للشكارة الواحدة داخل مصر يبلغ في السوق الحر 400جنيه للشكارة، خاصة بعد تخفيض الكميات المنصرفة للفلاحين للفدان إلى ثلاث شكارات للفدان الواحد في كل موسم من الموسمين أو الفصلين الزراعيين الصيفي والشتوي.
إن أكثر ما يتسبب في أزمة الأسمدة هو وجود عجز ناتج عن توقف بعض المصانع بسبب تضخم المديونيات، وهو ما تأكد من طلب عديد الشركات إعادة جدولة ديونها لدى البنوك، بعد أن عجز المستوردين من خارج مصر عن سداد شيكات كبيرة مستحقة لصالح الشركات المصرية بعد توريد الكميات، مما وضع تلك الشركات في مأزق كبير أمام البنوك المصرية.
كل تلك المشكلات ومشكلات أخرى، أدت إلى وصول الأمر إلى حد أن الجمعيات الزراعية تتسلم أقل من حصتها الشهرية من المصانع، بعجز مقدر بنحو 40%، بسبب عدم استلام نصيب الحكومة المقرر بـ 55%، وهي النسبة التي سبق للشركات -التي يفترض أنها تنتج ضعف الاحتياجات المحلية- ان احتجت عليها ونصفتها المحاكم المصرية عام 2016 في مواجهة الحكومة.
ويطرح الكثير من المتخصصين ضمن مشروع تطوير الريف المصري حلولا لأزمة الأسمدة بإجبار شركات الانتاج على تسليم حصة الـ55%، ويحث أخرون على ضرورة التفكير الجدى في قيام الحكومة نفسها بتشغيل مصانع وخطوط انتاج جديدة، لدعم الفلاح بصورة مباشرة عوضًا عن دعمها للشركات بالغاز، مقابل نسبة الـ 55% من المنتج.
وأخيرًا هناك مشكلة أسعار الحاصلات الزراعية، وهي مخرج ونتاج عمل الفلاح، لذلك تبدو واحدة من أهم المشكلات التي يعاني منها، ولذلك دائما تولي السلطة اهتمامًا بهاـ بغض النظر عن مدى استجابتها لمطالب الفلاح.
أحد القضايا الرئيسة المرتبطة بأسعار الحاصلات، هي أن الحكومة تسوق للناس أن الفلاح مزعج لها، وأنها يتحتم عليها تركه وفق منظور الخصخصة، أي أن عليه الاعتماد على نفسه في تسويق منتجاته. وهي ترى أنها غير ملزمة بأن تقوم بتسعير منتجاته الاستراتيجية. بعبارة أخرى، تتعامل الحكومة في أغلب الأحيان مع الفلاح بروح من المن، رغم أن البلدان الأخرى حتى في أعتى النظم الرأسمالية تقوم بدعم المزارعين بشكل مكثف.
القمح والقطن والقصب والذرة، هي المحاصيل الأربعة التي بقت إلى اليوم تتدخل فيها الحكومة عبر وزارة الزراعة لتحديد أسعارها، أضيف لها هذا العام الأرز، وهي بالقطع محاصيل رغم أهميتها إلا أنها قليلة العدد، بمعنى أن هناك محاصيل أخرى لم تعد تتدخل الحكومة فيه كالفول البلدي الذي أصبح المزارع المصري لا يزرعه اليوم تقريبًا، ناهيك عن أسعار البطاطس والطماطم والبرتقال، والسلع الثلاث الأخيرة يرتبط تسويقها الجيد وعلاقة الحكومة بها بفتح باب التصدير للخارج.
في القمح وخلال العام الزراعي2022، لا زال هناك فرق كبير بين سعره خارجيًا وسعره المحلي، فبسبب ظروف الجفاف في الولايات المتحدة، والحرب الروسية الأوكرانية، ولفرض ضريبة على التصدير في روسيا، ارتفع أسعار القمح المستورد لتصل إلى نحو 7800جنيه للطن، مقابل تسليم الفلاح المصري للحكومة عبر التجار بسعر 820 جنيه للأردب زنة 155كجم، أي نحو 5300جنيه للطن. هذا الأمر يشكل دعما كبيرا من الحكومة للفلاح الأجنبي ماليا، ناهيك عن أنه دعمًا للتبعية للخارج. وستظل الفجوة بين الاستهلاك والانتاج كبيرة بسبب تلك السياسة وسياسات أخرى.
أما فيما يتعلق بالقطن والذرة الصفراء، فمشكلتهما ترتبط بترك الحكومة للفلاح لشركات الحلج والغزل والنسيج في القطن وللجمعية العامة لمنتجي الدواجن بشأن الذرة، فيما بات يعرف بالزراعة التعاقدية، أي التي ترتبط بوساطة الوزارة تجاه تلك شركات التوريد.
فبالنسبة للقطن، وهي سلعة يتم تصدير معظمها إلى الخارج، ومن ثم فهو يختلف عن القمح. فيلاحظ أنه خلال العام2020 كان سعر توريد قنطار القطن 2200جنيه للقنطار(القنطار زنة 157كجم)، لكن الحكومة المصرية رفعت سعر القنطار العام 2021 إلى 5600 جنيه للقنطار. لكن ما حدث عام 2022 يندى لها الجبين. إذ أن الحكومة تركت الفلاح للشركات المستوردة التي اشترت القنطار بـ 3500 جنيه في شهري أكتوبر ونوفمبر2022، ما أدى لمسارعة الغالبية لبيع القطن بالخسارة أملا في سداد الفلاح لالتزاماته قبل المالك، ثم رفعت السعر فجأة في الأسبوع الأول من ديسمبر إلى 7000جنيه.
بالنسبة إلى الذرة الصفراء، فرغم أن معظم الانتاج يستهلكه الفلاح نفسه كغذاء له بطحن الحبوب، أو كغذاء للماشية سواء بطحن الحبوب أو فرم الذرة وهو عيدان خضراء، إلا أن الجزء المحدود الذي يتم توريده للحكومة حدد سعره خلال العام2022 بنحو 1000جنيه للأردب زنه 220 كيلو (يتم الوزن هنا بقوالح الذرة) للذرة الصفراء، و800جنيه للذرة الأبيض، وهذا السعر محدود للغاية، إذا ما وضع في الاعتبار ارتفاع أسعار بذور الذرة، التي تصل في الأنواع الجيدة إلى 500جنيه للعبوة المحددة بـ5كجم، وكذلك ارتفاع إيجارات الأرض الزراعية وكذلك سعر السولار ومبيدات رش الديدان، ناهيك عن اختفاء (شكارة) الكيماوي.
مشكلة قصب السكر تبدو ليست سهلة هي الأخرى، فهو المحصول الرئيس للفلاح في الوجه القبلي، ففي العام 2021 كان سعره 720 جنيه للطن، وهو سعر لم يزد منذ عام 2016 رغم زيادة مستلزمات الإنتاج بشكل كبير. مؤخرًا ارتفع سعر تريد محصول 2022 إلى 810 جنيه، وهو لا زال قليل، وقد طالب نواب البرلمان العام الماضي بزيادة أسعار التوريد إلى 1000 جنيه للطن، وإلى 1200 جنيه العام 2023 لكن هذا المطلب لم ينفذ في الواقع، ما يجعل زراعة قصب السكر مشكلة كبيرة، خاصة وأنه من المحاصيل الشرهه في استهلاك المياه بعد محصول الأرز مباشرة، لذلك كان من المهم قيام الحكومة منذ سنوات بتوجيه الفلاح بزراعة الأرز في محافظات المصب، والتحول من زراعة القصب إلى زراعة البنجر.
وأخيرا بالنسبة للأرز، فعلى عكس القطن الذي تركت الحكومة الفلاح فيه للشركات الخاصة كي تبخسه حقه، في تحديد السعر، وفي استلام مستحقاته، فقد قامت وزارة التموين بشأن الأرز، وهو سلعة غذائية يحتاجها كل بيت بتحديد 6600-6850 جنيه سعر توريد لطن الشعير عام 2022، وبحيث يكون دفع المستحقات خلال 48 ساعة، مع إلزام كل مزارع بتوريد طن على الأقل عن كل فدان، وفرضت الدولة عقوبات صارمة على تخزين الأرز والمضاربة عليه أو احتكاره.
على أية حال، فإن قضية أسعار الحاصلات لا ترتبط فقط بدعم الفلاح مساواة برجال الأعمال الذين يدعمون بأشكال وطرق شتى، بل بعدم ترك الفلاح نهبًا للموردين، وبعدم دعم الفلاح الأجنبي على حساب الفلاح المصري، ناهيك عن حتمية اتباع عديد السياسات التي تمت الإشارة إليها.