الإثنين, 18 أغسطس 2025, 9:18
نافذة الرأى

.د. دينغ لونغ يكتب : الاقتصاد العالمي غارق في الركود:

 

 

الاقتصاد العالمي غارق في الركود: مسح للاقتصاد العالمي في النصف الأول من 2025

بقلم : أ.د. دينغ لونغ

أستاذ بمعهد الدراسات شرق الأوسطية في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية

خلال النصف الأول لعام 2025، ظل الاقتصاد العالمي يتأرجح عند مستويات متدنّية، بينما ظلّت التجارة والاستثمار الدوليان متراجعين وخاملين، بحيث خفضت العديد من المؤسسات الدولية توقّعات معدّل نمو الاقتصاد السنوي، إذ يعتقد معظمها أن حزمة من السياسات الأحادية لإدارة ترامب الأمريكية لا تُبَرَّأ من اللوم، حيث جلبت قدرًا كبيرًا من عدم اليقين للسوق العالمي. على الرغم من التوصّل مؤخرًا إلى اتفاقيات مرحلية في المشاورات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة، واليابان وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلا أن المخاوف الكامنة لم تُحَل بشكل نهائي بعد. ولمواجهة صعوبات الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من العام، هناك حاجة ملحة لتضافر جهود جميع الأطراف لإيجاد حلول ناجعة.

أولاً: الاقتصاد العالمي غارق في الحضيض، التعريفات الأمريكية سبب رئيسي.‌

في منتصف العام، أصدرت الأمم المتحدة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تقارير متتالية، حدّدت فيها توقّعات نموّ الاقتصاد العالمي عند 2.8% و2.4% و2.3% على التوالي، بانخفاض قدره 0.5 و0.5 و0.4 نقطة مئوية عن بداية العام. وأشار البنك الدولي إلى أن نمو الاقتصاد العالمي هذا العام سيكون الأبطأ منذ عام 2008، حيث تواجه ما يقرب من 70% من الاقتصادات انخفاضًا في معدلات نموها. وقال كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، إندرميت جيل، إن هذا سيكون “أسوأ أداء منذ 17 عامًا”.

وتتوقّع تقارير الأمم المتحدة أن ينخفض نمو التجارة العالمية من 3.3% في عام 2024 إلى 1.6% بشكل حادّ في عام 2025. والأكثر خطورة هو أنه بعد ذروة تجنّب التعريفات المؤقتة في النصف الأول من العام، قد تشهد تجارة السلع انكماشًا في النصف الثاني من عام 2025. ونظرًا لعدم اليقين في السياسات التجارية، إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة، يظل نمو الاستثمار العالمي ضعيفًا، مما سيؤثّر على الارتقاء المستقبلي للإنتاجية.

منذ بداية عام 2025، ألقت الحمائية التجارية للحكومة الأمريكية بظلال كثيفة على الاقتصاد العالمي، ممّا أثّر بشدّة على بيئة ونظام التجارة العالميين. وكانت انتقادات المؤسسات الدولية صريحة بلا مواربة، حيث قالت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، إن السياسات التجارية لحكومة ترامب جلبت “رياحًا اقتصادية معاكسة” للعالم. وكان رئيس بنك التسويات الدولية (BIS)، أغوستين كارستنز، أكثر صراحة، معتبرًا أن النزاعات التجارية التي أشعلتها الولايات المتحدة أثّرت بعمق على المشهد الاقتصادي العالمي، وقد زعزعت بشدة ثقة الدول في النظام الاقتصادي القائم.

ثانيًا: تفاقم الانقسام بين الاقتصادات المتقدّمة وتتألّق الاقتصادات الناشئة

تعرّض الاقتصاد الأمريكي لـ”ارتداد” السياسات، حيث زادت ضغوط ارتفاع التضخّم مرة أخرى، حيث ظل معدّل التضخّم الأساسي (مؤشّر أسعار المستهلك) في الولايات المتحدة على أساس سنوي في النصف الأول من العام لا يقلّ عن 2.8%.أثر ذلك على استمرار ضعف الدولار، بينما عزّز صعود الذهب وارتفاع العملات المستقرّة، مما يعني أن السوق العالمي صوّت بعدم الثقة في الدولار. ويتوقّع معهد بيترسون للاقتصاد الدولي الأمريكي أنه بحلول نهاية عام 2025، قد يواجه الاقتصاد الأمريكي ركودًا في النمو يتزامن مع ارتفاع التضخّم.

وتتأثّر أوروبا واليابان بانكماش الأسواق الخارجية، إذ أدى القلق الناجم عن عدم اليقين في سياسات التعريفة الأمريكية إلى تراجع ثقة الشركات والمستهلكين في مختلف البلدان. وتأثرًا بالاستهلاك الشخصي الضعيف والطلب الخارجي المنخفض، انخفض الاقتصاد الياباني في الربع الأول بنسبة 0.7% على أساس معدّل سنوّي، مسجّلاً نموًا سلبيًا مرة أخرى بعد عام. وتحت تأثير الصراع الروسي الأوكراني وصولاً إلى حرب التعريفات، كاد اقتصاد ألمانيا، محرك منطقة اليورو، أن يسجّل نموًّا صفريًا.

وتفاجأ أداء الاقتصادات الناشئة بأنه لافت للنظر. في بداية العام، كان يُعتقد أن الاقتصادات الناشئة ستكون الأكثر تضرّرًا من الحرب التجارية العالمية، ولكن عمليًا، صمدت معظم هذه الاقتصادات أمام التوقّعات المتشائمة. وبدفع من السياسات المالية والنقدية التوسّعية محليًا واتفاقات التجارة الحرة الخارجية، لا تزال قادرة على الاستفادة من عملية إعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية، وكان أداؤها مذهلاً. من الناحية الإقليمية، حافظت الاقتصادات الناشئة الآسيوية على مرونة نمو قوية، مثل فيتنام وإندونيسيا (دول الآسيان) اللتين سجّلتا معدلات نمو في الربع الأول بلغت 6.9% و4.8% على التوالي، بينما حققت قيرغيزستان معدّل نمو 13.1%. وزادت جاذبية الأسواق الناشئة للاستثمارات الأجنبية بشكل كبير. منذ بداية العام، ارتفع مؤشّر سندات الأسواق الناشئة بالعملة المحلية لجي بي مورجان ومؤشر أسهم الأسواق الناشئة لمورجان ستانلي بنحو 10% لكل منهما. وفي المقابل، ارتفع مؤشر MSCI الدولي العالمي الذي يمثل الاقتصادات المتقدّمة بنسبة 4.8% فقط.

ثالثًا: عوامل عدم اليقين عديدة في النصف الثاني‌

بالنظر إلى النصف الثاني من العام، وبسبب استمرار الصراعات الجيوسياسية العالمية وانتشار الحمائية التجارية واضطرابات الأسواق المالية الدولية، سيظل الاقتصاد العالمي يواجه ضغوطًا وتحديات كبيرة. ويعتقد بنك التسويات الدولية أن العالم يدخل عصرًا جديدًا من عدم اليقين الشديد وعدم القدرة على التنبؤ.

سعت حكومة ترامب إلى تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال تنفيذ سياسات خفض الضرائب وتخفيف القيود التنظيمية، لكن مشروع قانونها “الكبير والجميل” أشعل خلافات بين الأطراف المختلفة، وتعرّضت سياسات خفض الضرائب والعجز لانتقادات بأنها تنقل الثروة من الفقراء إلى الأغنياء. في الوقت نفسه، صرّح رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، بأن عواقب التعريفة الجمركية لحكومة ترامب بدأت تنتقل إلى الاستهلاك النهائي، ومن المتوقع أن ترتفع ضغوط التضخم بشكل ملحوظ في الأشهر القليلة المقبلة. وقد أثارت هذه التصريحات بالفعل تبادل الاتّهامات بين ترامب وباول. ولا يمكن تجاهل قوة التأثير المتقلّبة للسياسة الأمريكية.

سيظل عدم اليقين بشأن سياسات التعريفة الأمريكية هو الخطر الرئيسي على نموّ الاقتصاد العالمي. لقد انتهت المفاوضات الحالية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين التقليديين مثل المملكة المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، لكن الدول تتعرّض بشكل عام لضغوط قوية من جماعات المصالح الصناعية المحلية مثل الحديد والصلب والسيارات والزراعة، مما يخلق تقلّبات كبيرة في تنفيذ معظم الاتّفاقيات. أما بالنسبة لمطالبة ترامب للاتحاد الأوروبي باستثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة، واليابان باستثمار 550 مليار دولار، فمن المرجح أن تلتزم الأطراف بها مؤقتًا. وقد تعيد الولايات المتحدة استخدام أداة التعريفة مرة أخرى، وسيصبح التفاعل الاقتصادي والتجاري أمرًا معتادًا.

بالإضافة إلى ذلك، شهد النصف الأول من العام تفجّرًا متعدّد البؤر للمخاطر العالمية. فقد تصاعد الصراع الروسي الأوكراني باستمرار، مما دفع الدول الأوروبية إلى زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير، مما يجعل من الصعب توجيه المزيد من الموارد المالية لتحفيز الاقتصاد. واستخدام الحوثيين لتكتيكات الاستنزاف غير المتماثلة أدّى إلى انخفاض حركة المرور في قناة السويس بنسبة 40%. إن تداخل هذه النقاط الساخنة للمخاطر الجيوسياسية يدفع أسعار السلع العالمية مثل النفط والغذاء إلى الارتفاع، مما سيعيق خطى انتعاش الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من العام.

رابعًا: “محرك الصين” يُنظر إليه بعين الاعتبار عالميًا‌

في النصف الأول من عام 2025، وفي مواجهة البيئة الخارجية المعقّدة والمتغيّرة، عجلت الصين بتنفيذ سياسات تنظيمية مضاّدة للدورة الاقتصادية نشطة وفعالة، حافظت خلالها على نموّ مستقرّ نسبيًا. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من العام، بالأسعار الثابتة، نموًا بنسبة 5.0%. وزاد الاستثمار في الصناعات عالية التقنية بشكل خاص بنسبة 10.6%، مما حافظ على زخم النموّ. كما تجاوزت الصادرات الصينية التوقّعات، حيث سجّلت حجم الصادرات في النصف الأول من العام نموًّا سريعًا بنسبة 7.2% على أساس سنوي، محقّقة لأول مرة في نفس الفترة التاريخية اختراق حاجز 13 تريليون يوان، بحيث رفع صندوق النقد الدولي وغولدمان ساكس والعديد من المؤسسات المالية الدولية توقّعات نمو الاقتصاد الصيني لعام 2025.

في مواجهة التيّار المعاكس للانفرادية والحماية، وسّعت الصين باستمرار دائرة الشركاء التجاريين. في النصف الأول من العام، حققت الصين نموًا في الصادرات والواردات مع أكثر من 190 دولة ومنطقة، حيث بلغ عدد الشركاء الذين تجاوز حجم التبادل التجاري معهم 500 مليار يوان 61 شريكًا، بزيادة 5 عن الفترة نفسها من العام الماضي. ساهمت الأسواق الناشئة بقدر أكبر من النموّ، حيث بلغ حجم التجارة بين الصين والدول المشاركة في مبادرة “الحزام والطريق” 11.29 تريليون يوان، بزيادة قدرها 4.7%، مما يشكل 51.8% من إجمالي التجارة الخارجية. على خلفية التقلّبات الهبوطية للاستثمار الأجنبي المباشر العالمي، يتّجه المزيد من الشركات الأجنبية إلى اعتبار الصين وجهة استثمارية مثالية. وبلغ عدد الشركات الأجنبية التي لديها أنشطة استيراد وتصدير فعلية في الصين في النصف الأول من العام 75000 شركة، وهو أعلى رقم في نفس الفترة منذ خمس سنوات.

يعتقد البنك الدولي أن أدوات السياسة المرنة، والإمكانات السوقية الضخمة، والموارد البشرية الوفيرة في مجالات الابتكار التكنولوجي والتصنيع المتقدّم، تشكل القوّى الدافعة الأساسية للنموّ عالي الجودة للاقتصاد الصيني. وخير دليل على ذلك، ظهور نموذج DeepSeek مطلع العام الجاري متحديًا الحصار الأمريكي، والذي وُصف بأنه اختراق على مستوى القدرات التكنولوجية الوطنية. ويتميز الابتكار الصيني بوضوح بسمتي “الانفتاح” و”المصدر المفتوح”، مع الاستعداد لمشاركة التكنولوجيا الأصلية وسيناريوهات الابتكار مع العالم. كما دفعت الصين باتّصال البنى التحتية للطاقة في العديد من الدول مثل فيتنام ولاوس، حيث شكّلت الطاقة النظيفة 90% منها، لتشارك التقنيات المتقدّمة ومفاهيم الإدارة.

وفي منتدى دافوس العالمي في مدينة تيانجين الصينية الذي اختتم مؤخرًا، اقترح رئيس مجلس الدولة الصيني، لي تشيانغ، أن ما نحتاجه عندما تواجه التجارة والاقتصاد الدوليان صعوبات ليس “قانون الغابة” حيث يأكل القوي الضعيف، بل تحقيق المنفعة المتبادلة من خلال التعاون المربح للجانبين. لقد نجحت الصين بإصرارها على الانفتاح، وستظل أبواب الانفتاح في المستقبل تتّسع أكثر فأكثر. في المستقبل، ستواصل الصين تعميق الاندماج والربط مع السوق العالمي، وتعزيز التعاون الصناعي والتكنولوجي مع مختلف الدول، لجعل تنمية الصين تعود بمنافع أكبر على العالم بأسره.