بقلم : د مهندس / سمير علي
خلال التاريخ الحديث، شهدت العديد من المشاريع والصناعات ومنها صناعة السيارات العديد من الإخفاقات الاستراتيجية التي أدت إلى خسائر مالية ضخمة، وضرر بالغ في السمعة، ومشاكل قانونية، ومخاطر على السلامة. وفي هذا المقال قمت بعمل تصنيف لأبرز وأسوأ هذه الاستراتيجيات الفاشلة التي أدت إلى إخفاقات كارثية في مجال صناعة السيارات مع أمثلة حقيقية من الواقع مدعومة بالأرقام والنتائج أستعرضها لحضراتكم بطريقة مبسطة جدا لكي نستخلص منها أهم الدروس لتفادي تكرارها.
خفض التكاليف بشكل كارثي حتى على حساب السلامة
:(FORD – PINTO)
قامت شركة “فورد” (Ford) الأمريكية بتطوير سيارة “بينتو” (Pinto) مع بداية السبعينات من القرن الماضي بسرعة لمنافسة السيارات اليابانية الصغيرة التي انتشرت بشكل واسع في ذلك الوقت. وقد اكتشف المهندسون عيباً خطيراً في خزان الوقود، حيث كان ينفجر عن تعرض السيارة لحادث تصادم من الخلف. وللأسف قررت إدارة الشركة عدم إصلاح المشكلة على الرغم من أن تكلفة الإصلاح كانت 11 دولاراً فقط لكل سيارة، وبدلا عن ذلك، قررت دفع تعويضات الوفيات لأنها أرخص من الإصلاح!
والنتائج: وصل عدد الوفيات لأكثر من 500 حالة بسبب حرائق خزانات الوقود. وقام العملاء برفع قضايا ضد الشركة كان من نتيجتها أن دفعت الشركة تعويضات قانونية تجاوزت 125 مليون دولار. وفي النهاية، اضطرت “فورد” إلى سحب 1.5 مليون سيارة تماما من الأسواق عام 1978.
أسباب الفشل: التركيز على خفض التكاليف حتى لو كان على حساب السلامة وعدم وضع تقدير صحيح للعواقب القانونية والأخلاقية.
الوسائد الهوائية من (TAKATA):
خلال العقد الأول من هذه الألفية (2000 – 2010) احتلت شركة “تاكاتا” (TAKATA) اليابانية موقع الريادة في صناعة الوسائد الهوائية لمختلف شركات السيارات على مستوى العالم. للأسف، وفي إطار سياستها لخفض التكاليف استخدمت الشركة مواد رخيصة في صناعة الوسائد الهوائية دون إجراء الاختبارات الكافية عليها لشروط السلامة. ونتيجة لذلك، انفجرت بعض الوسائد الهوائية بقوة مميتة أثناء التصادم، ما أدى إلى تطاير شظايا معدنية داخل السيارة. وقد أثرت هذه المشكلة على 30 علامة تجارية مختلفة بما في ذلك كبرى شركات صناعة السيارات مثل “هوندا”، “تويوتا”، و”فورد”.
والنتائج: تسجيل 27 حالة وفاة وأكثر من 400 إصابة، وبالتالي استدعاء ملايين السيارات حول العالم. وهو ما أدى في النهاية إلى إفلاس شركة “تاكاتا” في عام 2017 بعد أن تجاوزت خسائرها 10 مليارات دولار.
أسباب الفشل: تركيز الموردين على خفض التكاليف على حساب السلامة، ضعف الرقابة من شركات صناعة السيارات على تطبيق اشتراطات الجودة والسلامة قبل اعتماد قطع الغيار من الموردين. والأسوأ أن البطء في الاستجابة لحل المشكلة وانعدام الشفافية وضعف القدرة على التكيف مع المنافسة أدى إلى تفاقم الكارثة. بالإضافة إلى أن الفشل الذريع في الإدارة المالية للأزمة كان أحد أهم عوامل الإفلاس.
عدم اختبار جودة أداء المُنتج ضمن منظومات السيارة
بين عامي (2009 – 2010)، أبلغ عدد كبير من العملاء عن تسارع غير مقصود وغير مُتحكم فيه في سيارات “تويوتا” و”لكزس” (Toyota, Lexus) اليابانية، مما تسبب في حوادث قاتلة. للأسف، في البداية لم تكن استجابة تويوتا سريعة تماشياً مع خطورة المشكلة. وبدلا من التحقيق في الأمر، ألقت اللوم على قائدي السيارات. إلا أن التحقيقات لاحقا كشفت أن السبب كان عيبا في تقاطع دواسات البنزين مع فرش الأرضية أسفل قدم قائد السيارة الذي يؤدي إلى أن تعلق الدواسة وهي في وضع التسارع بشكل مفاجئ.
والنتائج: اضطرت تويوتا إلى استدعاء حوالي 9 مليون سيارة على مستوى العالم. ودفعت تويوتا 1.2 مليار دولار كغرامات جنائية بالإضافة إلى خسائر بقيمة 5 مليارات دولار بسبب الدعاوى القضائية وتكلفة الاستدعاءات مع انخفاض قيمة سهم الشركة في البورصة بنسبة 16% خلال أسابيع قليلة.
أسباب الفشل: إنكار المشكلة في البداية بالرغم من خطورتها على أمان وسلامة من بداخل السيارة وإلقاء اللوم على قائدي السيارات. ضعف نظام مراقبة الجودة لمكونات السيارة ضمن المجموعات المحيطة بها، كما أن الاستجابة المتأخرة لفحص المشكلة أدت لتفاقم الكارثة.
تجاهل اتجاهات السوق واهتمامات العملاء
في الفترة من (1957 – 1960)، استثمرت شركة فورد الأمريكية (Ford) 250 مليون دولار في تطوير موديل (Edsel)، معتقدة أنه سيحقق ثورة في سوق السيارات. وقد بدأ الإنتاج قبل اجراء الدراسات الكافية للمتغيرات في اتجاهات السوق وفي تطلعات العملاء. وبالرغم من أن السيارة كانت باهظة الثمن، كان تصميمها غير جذاب للمستهلكين، خاصة الشبكة الأمامية والأسوأ من ذلك أنها كانت مليئة بالمشاكل الفنية، وتفاقمت الكارثة عندما تم تقديم السيارة في “التوقيت الخطأ” متزامناً مع فترة ركود اقتصادي.
والنتائج: خسائر مهولة وصلت إلى 350 مليون دولار وهي تعادل حوالي 3 مليارات دولار بأسعار اليوم. مما أدى إلى توقف الإنتاج بعد 3 سنوات فقط.
أسباب الفشل: إهمال الشركة لأبحاث السوق ومتابعة التغيير في اهتمامات العملاء بشكل مستمر. المبالغة في تقدير طلبات شراء السيارة، ثم إطلاق السيارة في التوقيت الخطأ متزامناً مع فترة من الركود الاقتصادي الشديد.
التوسع المُفرط بدون تخطيط
بداية من عام 1990 قررت إدارة شركة “جنرال موتورز” (GM) الأمريكية التوسع في السوق الأوروبية من خلال الاستحواذ على عدد من شركات السيارات الأوروبية مثل “أوبل” و”فوكسهول” و”ساب” (Opel, Vauxhall, Saab). لكنها عانت من منافسة شديدة مع الشركات الأوروبية المحلية لأنها فشلت في تقديم سيارات تناسب ذوق الأوروبيين، الذين يفضلون السيارات الأصغر حجما والأوفر في استهلاك الوقود.
والنتائج: خسرت جنرال موتورز 20 مليار دولار في أوروبا لما يقرب من 20 عاماً. واضطرت في عام 2017 إلى بيع “أوبل” و”فوكسهول” لمجموعة (PSA) (بيجو-سيتروين) الفرنسية بمبلغ 2.3 مليار دولار لتعويض جزء بسيط من خسائرها.
أسباب الفشل: التسرع في إقرار استراتيجية للتوسع دون دراسات كافية، وعدم القدرة على التكيف مع تفضيلات العملاء في الأسواق المختلفة. بالإضافة إلى ضعف التحكم في التكاليف وفي الإدارة المالية وعدم كفاءة العمليات.
خسارة فرصة ذهبية لتحقيق الريادة وقتل الابتكار
قامت شركة جنرال موتورز (GM) الأمريكية بإنتاج سيارتها (EV1) كأول سيارة كهربائية حديثة خلال الفترة من (1996 – 2003). وقد كانت فرصة ذهبية لتولي الشركة موقع الريادة في هذه الصناعة إذا تم استغلالها بشكل صحيح خاصة مع ضعف المنافسة لها في ذلك الوقت. ولكن بدلاً من وضع استراتيجية للتوسع في المبيعات، قامت الشركة بتأجير هذه السيارات فقط، مما حدّ من انتشارها. ورغم تزايد الطلب على المركبات الكهربائية قررت إدارة (GM) فجأة إيقاف البرنامج وتدمير هذه السيارات!!
والنتائج: خسرت (GM) فرصة عظيمة وسهلة لريادة سوق السيارات الكهربائية. وسريعاً انتهزت شركة “تسلا” (TESLA) هذه الفرصة واستثمرت بقوة في تطوير تكنولوجيا السيارات الكهربائية وأصبحت رائدة في هذه الصناعة.
أسباب الفشل: غياب رؤية بعيدة المدى لمستقبل السيارات الكهربائية والتغيرات في سوق السيارات، مقاومة داخلية للابتكار، والتمسك بقرارات تجارية قصيرة النظر التي كانت تُفضّل السيارات التي تعمل بالوقود البترولي.
فضيحة التلاعب في مستوى الانبعاثات
للتحايل على مستوى الانبعاثات المرتفع جداً من سياراتها، قررت شركة “فولكس فاجن” (VW) الألمانية اعتباراً من عام 2015 تثبيت “جهاز خاص” في محركات الديزل لجعلها تبدو صديقة للبيئة في الاختبارات، بينما كان ينبعث منها “40 ضعف” الحدود المسموح بها من الانبعاثات السامة. ومن خطورة هذه الفضيحة أُطلق عليها اسم “ديزل جيت” (Diesel gate).
والنتائج: تم اكتشاف الخدعة، وبناءً عليه دفعت فولكس فاجن أكثر من 35 مليار دولار كغرامات وتعويضات. وانخفضت أسهمها بنسبة 40% خلال أسابيع. بالإضافة إلى خسائر الشركة بسبب استدعاء 11 مليون سيارة على مستوى العالم مع ضرر شديد بسمعة فولكس فاجن وأجبرتها على التحول نحو صناعة السيارات الكهربائية.
أسباب الفشل: التحايل الأخلاقي والقانوني المتعمد على القوانين البيئية، التركيز على الأرباح قصيرة المدى بدلاً من الاستدامة طويلة الأجل، عدم الامتثال للوائح التنظيمية.
الإخفاق في إدارة منظومة السيارات الفاخرة
بالرغم من ضعف خبرتها في مجال السيارات الفاخرة، قررت إدارة شركة “فورد” (Ford) الأمريكية في عام 1989 الاستحواذ على كل من “جاكوار” و”لاند روفر” (JLR) الإنجليزية مقابل 2.5 مليار دولار لوضع قدم لها في سوق السيارات الفاخرة. لم يكن هذا التوسع الاستراتيجي مدروسا بعناية. فقد عانت فورد من ارتفاع تكاليف الإنتاج وسوء الإدارة والجودة وهو ما أدى إلى فشلها في وضع هذه العلامات التجارية العريقة في الوضع المناسب لها بين المنافسين.
والنتائج: بلغت خسائر فورد مليارات الدولارات في عمليات البحث والتطوير ومصاريف التشغيل. وبعد هذه الخسائر، اضطرت فورد في عام 2008 إلى بيع الشركتين لشركة “تاتا موتورز” (TATA Motors) الهندية بمبلغ 2.3 مليار دولار فقط. وبعد انتقال الملكية، نجحت “تاتا” في تحقيق أرباح من (JLR) وهو ما أكد على سوء إدارة فورد.
أسباب الفشل: نقص الخبرة في سوق السيارات الفاخرة، التسرع في اتخاذ قرار التوسع دون دراسات كافية، سوء إدارة لمنظومة العلامة التجارية، ارتفاع تكاليف الإنتاج دون تحقيق أرباح.
خلاصة الدروس المستفادة
كل هذه الإخفاقات تُظهر أن الاستراتيجية الخاطئة يمكن أن تؤدي إلى خسائر فادحة وضرر دائم في سمعة الشركات قد لا يمكن تعويضه أحياناً كثيرة. وقد تحدث الكوارث لأسباب عديدة وفي أي وقت حتى مع التخطيط الجيد ولكن كما رأينا في معظم الكوارث، إن تجاهل المشكلة بحجة حماية سمعة الشركة واتباع سياسة “الحصان الميت” في التعامل معها يؤدي إلى تفاقم الكارثة سريعا بل وأحيانا قد يصل بالشركة إلى حد الإفلاس خاصة في عصر السماوات المفتوحة والتطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات وتطبيقات التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى المنافسة الشرسةجدا.
ولذلك فمن أهم الدروس المستفادة من هذه الاستراتيجيات الفاشلة أنه لابد من اجراء دراسات الجدوى المالية لكل مُنتج قبل اتخاذ القرار بإنتاجه وعرضه للمستهلكين مع التأكيد على وضع خطة طوارئ للتصرف في حالة الظروف القهرية واهتمام خاص بتقدير رد فعل المستهلك. وعند ارتفاع تكاليف أي مُنتج بحيث يكون عُرضة للخروج من المنافسة أو تحقيق خسائر للشركة، يجب دراسة أسباب ارتفاع التكاليف بعناية وشفافية ولكن بما لا يضر بشروط السلامة والجودة حتى لو أدى الأمر إلى إيقاف إنتاجه.
ومن الضروري إجراء الدراسات المستمرة لفهم احتياجات العملاء والمتغيرات السريعة في الأسواق المختلفة قبل اعتماد أي استراتيجية للتوسع، واضعين في الاعتبار أن النمو المُستدام بخطوات ثابتة وبمعدل مناسب هو الأساس في تحقيق الأرباح للشركات وأن احتضان الابتكار والمبتكرين هو أهم العوامل التي تصنع الفرق بين النجاح والفشل والحفاظ على بقاء الشركات في مقدمة المنافسة. ولكن يجب أن يتحرك هذا النمو في إطار واضح من الشفافية والصدق لأن العميل في الغالب لن يغفر بسهولة لمن تجاهل تطلعاته أو حاول أن يحتال عليه.