انتصارات وهمية لحرب التعريفات
بقلم : أ.د. دينغ لونغ
أستاذ بمعهد الدراسات شرق الأوسطية في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية بالصين
دخلت ما يسمّى التعريفة الجمركية الإضافية التي فرضها البيت الأبيض الأمريكي على 69 شريكاً تجارياً حيز التنفيذ في 7 أغسطس 2025، بمعدّلات تتراوح بين 10% و41%.
ويستغلّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التعريفة الجمركية باعتبارها مفتاحاً سحرياً لحل مشكلات أمريكا، مستخدماً إياها كورقة ضغط لإجبار الشركاء التجاريين على فتح أسواقهم وزيادة استثماراتهم ومشترياتهم من الولايات المتحدة، سعياً لتحقيق شعار “جعل أمريكا عظيمة مجدداً”. منذ إعلانه فرض التعريفة المتماثلة في 2 أبريل “يوم التحرير”، أبرمت الولايات المتحدة سلسلة من الاتفاقيات التجارية مع شركاء مثل بريطانيا وفيتنام والاتحاد الأوروبي، وأعلنت في 31 يوليو عن فرض تعريفات أحادية جديدة على عشرات الدول والمناطق. لكن حتى الآن، ويبدو أن هذه الاتّفاقيات مجرّد انتصار زائف، فهل عصا التعريفة الجمركية قادرة حقاً على الانتصار؟ يبدو أن علامات استفهام كثيرة تظل معلقة.
أولاً: اتفاقات بلا سند مكتوب
باستثناء بريطانيا، لم يتم صياغة أو توقيع معظم الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها الولايات المتحدة مع اقتصادات أخرى في وثائق رسمية ملموسة. فقد اكتفى ترامب بالإعلان عن الاتفاقيات ونشر أطرها عبر منصته الاجتماعية الخاصة. ورغم تأكيد المسؤولين الأوروبيين على نية إصدار بيان مشترك مع الولايات المتحدة حول الاتفاقيات التجارية، أكّدوا أن ذلك سيكون وثيقة غير ملزمة قانونياً. حتى الاتفاقية التعريفية الموقعة بين أمريكا وبريطانيا، لم تتجاوز كونها إطاراً عاماً يفتقر إلى التفاصيل التنفيذية.
أدّى غياب الوثائق الرسمية إلى تفسيرات متضاربة، بل ودفع الولايات المتحدة لتغيير شروطها بشكل انفرادي ومفاجئ، مما تسبّب في معاناة للدول الأخرى. فقد أكّدت اليابان أن الاتفاق يقضي بخفض معدّل الرسوم الإجمالي إلى 15%، بينما أشارت الوثائق الأمريكية إلى فرض رسوم إضافية بنسبة 15% على المعدّل القائم، كما اختلف الجانبان حول أنماط الاستثمار وتوزيع الأرباح اليابانية في أمريكا. وفي الوقت الذي ادّعى فيه ترامب حصوله على إعفاءات جمركية كاملة من الاتحاد الأوروبي وإندونيسيا والفلبين، غير أن هذه الدول نفت ذلك، مؤكّدة أن الإعفاءات تقتصر على سلع محدّدة. كما اختلفت وجهات النظر الأمريكية والأوروبية حول تطبيق التعريفة على المنتجات الطبّية. بالإضافة إلى ذلك، كشف موقع (Politico) الأمريكي أن فيتنام كانت تتوقع تعريفة نسبتها 11% خلال مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، لكن ترامب غيّر الشروط بشكل انفرادي في اللحظة الأخيرة ليرفعها إلى 20%، مما أثار استياء الحكومة الفيتنامية. يبدو أن الولايات المتحدة أبرمت العديد من الاتفاقيات، لكن الخلافات لا تزال قائمة، مما يحول ما أسماه ترامب “انتصاراً تاريخياً” إلى حالة من عدم اليقين.
ثانياً: نتائج مظهرية دون جوهر
تشبه معظم الاتفاقيات التجارية التي أبرمها ترامب “عروضاً استعراضية لإنجازاته”، تبدو وكأنها ضمنت لأمريكا أسواقاً دولية واستثمارات أجنبية ضخمة، لكن افتقارها للتفاصيل التنفيذية يجعل تنفيذها الفعلي أمراً صعباً.
تكرّرت في اتفاقيات أمريكا مع فيتنام ودول أخرى الإشارة إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 40% على “البضائع المعاد تصديرها”، دون توضيح تعريف أو آلية لتحديد هذه البضائع. ونظراً لتعقيد سلاسل التوريد والإنتاج في دول مثل فيتنام وتايلاند، سيواجه تطبيق هذه الرسوم صعوبات عملية. في المقابل، اعترف مسئول في المفوضية الأوروبية بأن استثمارات الاتحاد الأوروبي الجديدة في أمريكا بقيمة 600 مليار دولار تعتمد على نوايا شركات القطاع الخاص التي تخرج عن نطاق اختصاص الاتحاد، وبالتالي تظل فعالية هذه الاستثمارات محل تساؤل.
كما استخدم ترامب “التعريفات العقابية” للضغط على الهند ودول أخرى لتخفيض تعريفتها الجمركية وإلغاء الحواجز غير التعريفية. لكن وفقاً لتقديرات مؤسسة (Capital Economics) للأبحاث، لا تتجاوز نسبة الصادرات إلى أمريكا 2% من الناتج المحلي الإجمالي للهند، ممّا يجعل تأثير رسوم عقابية بنسبة 25% محدوداً على اقتصادها. ومن ناحية أخرى، استثنت التعريفات الأمريكية المرتفعة المفروضة على كندا والمكسيك المنتجات المشمولة باتفاقية (USMCA). وأظهرت بيانات وزارة الاقتصاد المكسيكية أن 85% من صادراتها إلى أمريكا معفاة من التعريفات. كما أن معظم تجارة السيارات عبر الحدود بين أمريكا وكندا مشمولة بالاتفاقية، مما يحد من قدرة أمريكا على تحقيق مطالبها المتعلقة بمراقبة الهجرة غير الشرعية وتجارة المخدرات.
ثالثاً: عدم مشروعية قانونية ونزاعات قضائية مستمرّة
عند إعلان فرض التعريفة المتماثلة، استند ترامب إلى قانون (السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية – IEEPA)، مدّعياً أن العجز التجاري الأمريكي يشكّل خطراً على الأمن القومي والاقتصادي، معلناً حالة طوارئ وطنية. نتيجة لهذا، رفع مركز العدالة الحرة الأمريكي دعوى قضائية نيابة عن خمس شركات صغيرة متضرّرة ضد ترامب أمام محكمة التجارة الدولية. قضت المحكمة بأن إجراءات ترامب التعريفية تفتقر إلى أي حدود قابلة للتحديد، وشروط تطبيقها لا تستوفي معايير التهديد غير العادي والاستثنائي للبلاد. كما أقرّت بأن الدستور يمنح الكونغرس وليس الرئيس سلطة تحديد معدلات الضرائب بما في ذلك التعريفات، وأن فرض ترامب رسوماً على معظم دول العالم يتجاوز صلاحيات الرئيس في حالات الطوارئ، لذا أمرت بإلغاء التعريفات. بعد ذلك استأنفت إدارة ترامب الحكم.
لا تزال مؤشرات الاستئناف غير مواتية لترامب. فمحكمة الاستئناف الفيدرالية في دائرة مقاطعة كولومبيا ترى من الناحية القانونية أن قانون (IEEPA) لا يذكر كلمة التعريفة الجمركية ولم يُستخدم سابقاً لفرضها، لذا لا يمكنه تبرير إجراءات ترامب. أما من ناحية تقسيم الصلاحيات، فقد تجاوز ترامب السلطات التي فوّضها الكونغرس للحكومة في شأن التعريفات، بل اغتصب صلاحيات الكونغرس الأساسية دون حدود. ولا تزال هذه القضية معلّقة، وقد يفصل فيها المحكمة العليا الأمريكية في النهاية المطاف. لكن بغض النظر عن نتيجة القضية، تبقى أصوات التشكيك في تجاوز ترامب الصلاحيات وانتهاكه الدستور عالية، وقد نعلم أن عشرات الدعاوى المماثلة رُفعت بالفعل أو لا تزال في مراحلها الأولى أمام المحاكم.
أخيراً : عقبات تنسيقية وانقسامات سياسية
زادت حروب ترامب التعريفية العالمية من الانقسام السياسي والاجتماعي في أمريكا، مخلّفة العديد من المشكلات لمرحلة التنفيذ. من جهة، برزت الخلافات بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات. ففي أبريل الماضي، رفعت تحالف يضمّ 12 ولاية أمريكية دعوى قضائية ضد ترامب، محذّرة من تأثير سياساته التعريفية على المواطنين، حيث قال حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم إن كاليفورنيا، كأكبر ولاية مستوردة، ستخسر مليارات الدولارات من الإيرادات بسبب التعريفات. بينما رأى النائب العام لولاية أريزونا كريس ميس أن التعريفة الجمركية هي في جوهرها ضريبة، سيُدفَعُ ثمنها في النهاية من جيوب مستهلكي الولاية. بينما صرّح ويليام تونغ، النائب العام لولاية كونيتيكت، بأن فوضى ترامب التعريفية العارمة تمثل ضريبةً كبيرةً على عائلات الولاية، وهي كارثة على الشركات المحلية ومناصب الشغل.
من ناحية أخرى، تَصْعِدُ الانقسامات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. مع دخول التعريفات حيز التنفيذ، حيث شَنَّ عددٌ من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين هجوماً على هذه التعريفات. وانتقد زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر حرب التعريفات التجارية باعتبارها حرباً موجّهةً ضد الشعب الأمريكي. بينما قالت السناتور ماريا كانتويل من ولاية واشنطن إن إيرادات الحكومة من التعريفات تُسْحَبُ مباشرةً من جيوب المواطنين الأمريكيين. وحذّر رون وايدن، رئيس لجنة المالية بمجلس الشيوخ، أن التكلفة الحقيقية للتعريفات ستظهر بوضوح خلال الأشهر القليلة المقبلة. ورغم سيطرة الجمهوريين الكاملة على مجلسي الكونغرس، فإن الديمقراطيين لن يقفوا متفرجين، وسيواصلون عرقلة سياسة ترامب التعريفية عبر الحملات الإعلامية وحتى تقديم المبادرات التشريعية.
إن معركة التعريفات التي تخوضها إدارة ترامب، رغم ضخامتها الظاهرية، فهي هشّة الجوهر وتواجه قيوداً متعدّدة عند التطبيق الفعلي، إذ لا يوجد منتصر في حروب التعريفات والتجارة، فالتعدّدية والتجارة الحرّة والتنمية المفتوحة هي الاتجاه الصحيح للتطور العالمي. إن ما يسميه ترامب انتصاراً تاريخياً ليس في النهاية سوى حلم اليقظة.