الخميس, 14 نوفمبر 2024, 6:20
الرئيسية نافذة الرأى

د.أحمد أمين يكتب: ماذا تريد الصين من قطاع غزة؟ (1)

بقلم: د. أحمد أمين

بدا مشهد المصالحة الفلسطينية الداخلية برعاية صينية غريباً وحدثاً لم تعهده الساحة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية. فلأول مرة تنخرط الصين بصورة أكثر وضوحاً في المشهد السياسي الشرق أوسطي المأزوم بصورة غير مسبوقة. فالأحداث منذ السابع من أكتوبر الماضي حتى الآن تتجه بوتيرة سريعة نحو المجهول والضبابية في تصور سيناريوهات المستقبل بما يهدد مصالح القوى العالمية الكبرى في هذه المنطقة الجغرافية التي لم تستقر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن.

لا يمكن في التحليل السياسي والإجتماعي والعسكري إغفال الجانب التاريخي الذي هو المشكل الرئيسي للواقع الذي يعمل المختصين على تحليله ومحاولة فهمه، بل واستشراف سيناريوهاته المستقبلية من أجل تقديم صورة مفصلة عن السلوك الملائم للوحدات الدولية إقليمياً وعالمياً في التعامل مع الظواهر والتعقيدات المستجدة، والتي تتسارع بوتيرة غير مسبوقة على مدار الساعة. وعلى هذا يجب الإشارة لهذا التغيير في السلوك الصيني وتعاظم الدور السياسي في الملف الفلسطيني.

خرجت الصين من الحرب العالمية ممزقة ومتخلفة حضارياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إلا أن الثورة الشيوعية التي قادها ماو تشي تونغ ورفاقه لملمت أجزاء الصين المبعثرة وصنعت لها دولة على أنقاض الإمبراطورية الصينية التي تآكلت في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. كان أبرز سمات السياسة الخارجية بقيادة الحزب الشيوعي تجاه دول العالم هو الوقوف بجانب ضحايا الإمبريالية الغربية بحكم الإرث الغربي الذي اكتوت به الصين وأدى لانهيار الإمبراطورية؛ مروراً بحرب الأفيون الشهيرة والمعروفة بحرب الخنازير، وانتهاءاً بالمجازر المروعة التي اتركبها الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية في حق الصينيين.

ولهذا خرجت الصين من رحم هذه الحقبة التاريخية ناقمة على الإرث الإستعماري، لتجد في الحاضنة الشيوعية السوفييتية ملاذاً آمناً في وسط نظام عالمي كان يتسارع بالتشكل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية كوريثة للغرب وزعيمة له بقيمه الديموقراطية والليبرالية والرأسمالية. وبالتالي لم يكن أمام الصين من مفر للعب دور محوري في ثورات الإستقلال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كمناطق للنفوذ الشيوعي في مواجهة الغرب الإستعماري.

إلا أنه ومع انهيار الإتحاد سوفييتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي على أيدي الولايات المتحدة الأمريكية، وتوقعه بنهاية مماثلة للحزب الشيوعي الصيني، باتت الصين تبحر منفردة في السياق الدولي هاربة من سياسة المواجهة والإحتواء ثم التدمير التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية معها قبل إنهيار الشيوعية وبعدها، لتقبل الصين لعب دور اقتصادي كأكبر ترسانة صناعية في العصر الحديث بدعم أمريكي وغربي لتبني السياسات الليبرالية والنيوليبرالية وفتح الأسواق الصينية أمام التروس الصناعية الغربية على مصارعها. وهو ما خلق مصالح متبادلة بين الطرفين بدأت بتحقيق قفزات هائلة للصين في المجال الدولي منذ حصولها على عضوية منظمة التجارة العالمية في مطلع الألفية. وخلال العقدين الماضيين تعاظم النفوذ الإقتصادي الصيني تعاظماً غير مسبوق مكَّن الصين من تحولها لأكبر جاذب للإستثمارات الدولية في العالم، وكأكبر مستورد للنفط والموارد الطبيعية عالمياً، ما وضعها في منافسة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية في أفريقيا والشرق الأوسط، لتبدأ مرحلة جديدة في العلاقات الدولية بين الطرفين.

يمثل الشرق الأوسط الحلقة الأقوى في التحكم في مسارات التروس الإقتصادية العالمية باعتباره القنطرة الجغرافية الواصلة بين آسيا والهند للأسواق الأفريقية والأوروبية. وبما أن هذه المنطقة هي إرث خالص لأوروبا ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن أي محاولة لتغيير قواعد العمل الإقتصادي في هذه المنطقة سيغيير من شكل هذه المنطقة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وهو ما لن تسمح به الولايات المتحدة المشكل الرئيسي واللاعب الأوحد في هذه المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن. وهو ما مكنها من تمرير مشروعها العسكري والسياسي في قلب هذه المنطقة على الأراضي الفلسطينية لتكون متحكمة في مفاصل حركة التجارة العالمية من آسيا لأفريقيا وأوروبا والعكس. وهو ما يعني وقوع المصالح الصينية تحت دائرة النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وفي أفريقيا.

وجاءت مبادرة الطريق والحزام الصينية تهديداً للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، باعتبارها إحياءاً لطريق الحرير القديم الذي كان يبدأ من الصين وينتهي في أوروبا الغربية، إيطاليا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال، مروراً بدول القوقاز ثم المنطقة العربية ودول شمال أفريقيا. وهو ما يعني إحياء النفوذ الصيني على حركة التجارة العالمية مرة أخرى، ما يعني بالطبع خروج كل هذه المناطق الجغرافية من دائرة النفوذ الأمريكي والغربي لصالح الصين. وبالتالي تصبح مناطق الصراع الجيوسياسي في تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة والفلبين وقلب آسيا ودول الشرق الأوسط مناطق اشتباك اقتصادي وسياسي وربما عسكري بين الصين والولايات المتحدة عاجلاً أم آجلا.

ومع الدورة الرئاسية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وإعلانه الحرب التجارية على الصين، ثم حقبة الوباء العالمية كوفيد-19 والعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تصبح مناطق الإشتباك أكثر حدة وتصعيداً، خاصة مع تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط مخلفاً فراغاً لم تسعى الصين وروسيا لملئه بصورة كاملة، نظراً لحسابات ضخمة أهمها محاولة تجنب صراع دولي في الشرق الأوسط، مع سلوك صيني يتسم بالإنعزالية السياسية ومحاولة للموائمة مع دول وشعوب المنطقة من ناحية، ومع المصالح الأمريكية من ناحية أخرى، والذي تلعب فيه إسرائيل دور المايسترو الرئيس في عزف سيمفونية تدمير المنطقة شعوباً ودولاً وكيانات لصالح الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.

أما الآن، فالمشهد بدا مختلفاً في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر في قطاع غزة، وما خلفه من عمليات تدمير مدروس وممنهج وتطهير عرقي متواصل، في ظل دعم أمريكي وغربي لن يتوقف إلا بإنهاء مهمة إسرائيل في محو قطاع غزة من الوجود بشرياً وسياسياً، مهما كانت نتائج ذلك من تفخيخ المنطقة ودفعها للإنفجار العسكري والسياسي. هذه النتيجة هي أمر محتوم لا يمكن الهروب منه في ظل تبني إسرائيل والولايات المتحدة المعادلة الصفرية في السلوك السياسي والعسكري في قطاع غزة، وهو ما سينسحب على كافة دول المنطقة في المستقبل القريب. وفي خضم كل هذا دخلت الصين كلاعب رئيسي في تحقيق المصالحة الفلسطينية بين أبناء الشعب الواحد. فماذا تريد الصين من قطاع غزة؟ يتبع في المقال التالي.