استعرضنا مع حضراتكم الجزء الأول من هذا الموضوع في نفس الموقع وعلى الرابط التالي :
دكتور سمير علي يكتب : سياسة الحصان الميت فى إدارة الشركات
وأوضحنا أنه في كثير من الشركات أو المشاريع قد تظهر أحياناً ممارسات إدارية لأغراض مختلفة تُعبر عن التمسك بأساليب أو مشاريع فاشلة على الرغم من وضوح عدم جدواها، مما يجعل بعض القادة يتخذون إجراءات غير منطقية تماما ليس لها أي هدف سوى خلط الأوراق والتعتيم على المشكلة الحقيقية وصرف الأنظار عن النتائج الحقيقية وذكرنا بعضا منها.
كما عرضنا بعضا من أهم المواقف التي تتجلى فيها هذه الظاهرة الخطيرة وأهم أسبابها بالإضافة إلى أهم النتائج السلبية لهذه الاستراتيجية على الشركات والمشاريع.
وقد تتبنى بعض الحكومات أيضا استخدام هذه الاستراتيجية خاصة في بعض المشاريع التي تكون أهدافها المُعلنة غير الأهداف الحقيقية للمشروع.
وأفضل مثال على ذلك ما يحدث على أرض فلسطين المحتلة سواء من السلطة الفلسطينية أو من حكومة الكيان الصهيوني، فكلاهما لديه “حصان قد مات ثم انتفخ من التعفن” حتى انتشرت رائحته ليس في فلسطين فقط ولكن في كل أرجاء العالم ، لأن قادة كلا من السلطة وحكومة الكيان يحرصان على البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة خوفا من الملاحقات القضائية وما قد يترتب عليها من عقوبات.
ولذلك يحاولون من خلال الآلة الإعلامية الهائلة إقناع المهتمين بالأمر بأن الحصان لم يمت وأنه يعاني فقط من “إعاقة حيوية”. تارة بسحر أعيُن الناس وتارة بإرهابهم باتخاذ ردود أفعال عنيفة جدا تجاه أي إنسان أو جهة تحاول إظهار الحقيقة أمام المعنيين بالأمر والتي قد تصل إلى التصفية الجسدية أو الإبادة الجماعية للأبرياء والنساء والأطفال حتى تغطي رائحة دمائهم على رائحة “الحصان المتعفن”.
ومستغلين في ذلك التجاهل التام لتطبيق القانون الدولي والإنساني، مع دعم بلا حدود مادياً وعسكرياً ومعنوياً من كل الدول “المتحضرة” التي صدعت رؤوسنا بالحديث عن الحرية وحقوق الإنسان ، بعد أن وضع قادة هذه الدول رؤوسهم داخل “أكياس علف الحصان” حتى تحجب كل حواسهم عن الوضع الحقيقي للحصان الميت لدرجة التنصل من هيئات الأمم المتحدة ذات الصلة، بل وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية التي أنشأوها لخدمة أهدافهم لمجرد اتخاذ المحكمة خطوة واحدة على استحياء عكس اتجاه مخططاتهم!!
وهنا نصل إلى السؤال المنطقي في نهاية الجزء الأول:
كيف يكسر القادة المحترفون والعظماء قواعد هذه السياسة وتحويل الفشل إلى نجاح؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول إن القادة العظماء هم الذين يرفضون ركوب الأحصنة الميتة ولا يتوهمون الركوض خلفها لأنهم يتعاملون مع المشكلات بطريقة احترافية، فيركزون على معالجة السبب الجذري للمشكلة، وتعزيز الشفافية، واتخاذ قرارات جريئة حتى عندما تكون غير مريحة على المدى القصير.
وفيما يلي سوف أستعرض مع حضراتكم “إطار عام” لخطة التغلب على سياسة الحصان الميت مكونة من عدة مراحل وأنشطة ضرورية جدا لنجاح هذه الخطة. وهنا يجب أن نوجه عنايتكم إلى أن هذه الخطة لن تختلف كثيرا من مشروع لآخر ولكن التفاصيل قد تختلف حسب مجال العمل، نوع وحجم المشروع، مستوى الخطورة، والظروف المحيطة بالمشروع وكذلك الظروف الجيوسياسية وأخيرا ترتيب الأولويات:
المرحلة الأولى: تشخيص الوضع الحالي
– تحديد مؤشرات “الحصان الميت” بدقة :
*انخفاض مستمر في الأداء دون تحسن رغم المحاولات.
* وجود مقاومة داخلية من فريق العمل تجاه الاستمرار في المشروع أو الفكرة.
* استنزاف الموارد دون تحقيق عائد مناسب.
* فقدان الثقة من الأطراف المعنية (عملاء، شركاء، مستثمرين).
– تحليل الأسباب الجذرية:
* استخدام أدوات مثل تحليل السبب الجذري (Root Cause Analysis – RCA) أو تحليل SWOT لفهم ما إذا كانت المشكلة تتعلق بالاستراتيجية أو التنفيذ أو بيئة العمل.
* عقد جلسات عصف ذهني مع المختصين وفريق العمل لتحديد الأسباب الحقيقية وراء تفاقم المشكلة.
– تقييم العوائد مقابل التكاليف:
*إجراء تحليل التكلفة والفائدة (Cost-Benefit Analysis) لمعرفة ما إذا كانت الفوائد المتوقعة تستحق الاستمرار في المشروع.
* مقارنة الأداء الحالي بالأهداف الأولية وتحديد نسبة الانحراف عن النتائج.
حقيقة وأرقام: تشير دراسة أجرتها (Harvard Business Review) إلى أن 70% من المشاريع الفاشلة كان يمكن إيقافها في مراحل مبكرة لو تم تحليل البيانات بفعالية.
المرحلة الثانية: تعزيز ثقافة الشفافية والمساءلة واتخاذ القرار الحاسم
– الاعتراف بالمشكلة بشجاعة
* تجاوز عقلية “الخسائر الغارقة (Sunk Cost Fallacy)” التي تجعل كثير من القادة يتمسكون باستراتيجيات فاشلة بدافع استرداد ما تم إنفاقه.
* تحديد واستبدال القيادات صاحبة الفكر الغير مُتقبل للنقد أو التطوير.
* غرس ثقافة مرنة بين فريق العمل تقبل التغيير والتكيف مع المتغيرات.
* إنشاء قنوات تواصل مفتوحة (استشارة الخبراء وأصحاب المصلحة)
* الاستفادة من آراء المستشارين والمتخصصين لتقييم جدوى الاستمرار أو التوقف.
* وضع نظام فعال وسريع لمعرفة أراء العملاء وأصحاب المصلحة في المنتجات أو الخدمات.
* تشجيع الموظفين على التحدث عن المشكلات بوضوح دون خوف من العقاب.
*إشراك فريق العمل الداخلي لجمع وجهات نظر متعددة قبل اتخاذ القرار النهائي.
– اتخاذ قرار الاستمرار أو التوقف بناءً على معلومات موثقة ودقيقة
* فإذا كان هناك أمل في التحسين: يتم إعادة تصميم الاستراتيجية مع وضع برنامج لإدارة التحديات والمخاطر، وتوفير موارد جديدة مادية وبشرية.
* وإذا لم يكن هناك أمل: وقف المشروع فورا، وإعادة تخصيص الموارد لمشاريع أو أنشطة أكثر فائدة.
حقيقة وأرقام: أفادت دراسة لمؤسسة (McKinsey & Company) للأبحاث أن الشركات التي تطبق ثقافة شفافة في اتخاذ القرارات تحقق نسبة نجاح أعلى بنسبة 47% مقارنة بتلك التي تتجنب الاعتراف بالفشل.
المرحلة الثالثة: التنفيذ والتكيف مع القرار
– تطوير خطة خروج ذكية (إنهاء المشروع بذكاء)
*وضع معايير واضحة لتحديد متى يجب التخلي عن مشروع معين.
*وضع استراتيجية خروج تقلل من التأثير السلبي على الشركة والموظفين والعملاء.
* توثيق الدروس المستفادة لضمان عدم تكرار الأخطاء مستقبلاً.
* إدارة تبعات القرار على الموظفين والشركاء باتباع إستراتيجية تواصل شفافة.
– إعادة توجيه الموارد إلى فرص أكثر جدوى
*استثمار الموارد المالية والبشرية في مشاريع أخرى ذات عوائد محتملة أفضل.
* تحفيز الابتكار والبحث عن حلول بديلة تحقق أهداف الشركة.
– بناء ثقافة التعلم من الفشل
* تعزيز عقلية النمو (Growth Mindset) داخل الشركة.
* تشجيع فريق العمل على مشاركة الأفكار والتجارب السابقة للاستفادة منها في المستقبل.
حقيقة وأرقام: طبقا لدراسة قامت بها (Deloitte) فإن الشركات التي تعيد توجيه مواردها بمرونة نحو الفرص الجديدة تحقق معدلات نمو أعلى بـ 25% من منافسيها.
المرحلة الرابعة: المراجعة المستمرة وتطوير استراتيجيات بديلة
– تطوير آليات مراقبة الأداء بشكل مستمر
* تطبيق نظام فعال لمحددات الأداء الرئيسية (KPIs & CMIs) التي تساعد في تحديد المشروعات الغير فعالة في وقت مبكر.
* مراجعة الاستراتيجيات بشكل دوري ومراقبة أي حيود عن الأهداف والنتائج لتجنب الوقوع في نفس الفخ.
– تعزيز الابتكار والتجريب
* تنفيذ مشاريع تجريبية (Pilot Projects) قبل التوسع في التنفيذ.
-استخدام نموذج (Agile) للحصول على الأفكار بشكل مستمر. علما بأن هذا النموذج قد لا يكون مناسباً لكل المشاريع، خاصة التي تتطلب تخطيطاً دقيقاً مسبقاً أو مستوىً عالٍ من السرية.
* تخصيص ميزانيات صغيرة (Provisions) لاختبار الأفكار قبل التوسع فيها بالإضافة إلى تغطية الطوارئ.
* تشجيع فرق العمل على تجربة استراتيجيات جديدة مع تقليل المخاطر.
حقيقة وأرقام: طبقا لأبحاث أجرتها مؤسسة (Gartner) فإن 58% من الشركات التي تعتمد أساليب المشاريع التجريبية السريعة تتحسن قدرتها على الابتكار وتقلل من معدلات الفشل بنسبة 30%.
– بناء بيئة تنظيمية مرنة
* تنفيذ نظام فعال لتطوير مهارات “الصف الثاني” للقيادات على جميع المستويات.
* تدريب القادة والموظفين على التكيف مع التغيير السريع من خلال برامج (OCM).
*غرس ثقافة تتيح حرية الاقتراح والنقد البناء مع منح الصلاحيات الضرورية لسرعة اتخاذ القرار.
حقيقة وأرقام: أفادت دراسة قامت بها (PWC) أن 80% من الشركات الكبرى الناجحة التي تعتمد مراجعات منتظمة للقرارات الاستراتيجية، يمكنها من تجنب الفشل بنسبة 60% أكثر من غيرها.
خلاصة القول
القادة العظماء هم من يدركون متى يجب التوقف والنزول من على “الحصان الميت” ومتى يمكنهم إعادة توجيه الجهود نحو بدائل أكثر نجاحاً مع تجنب الوقوع في فخ الاستمرار في مشاريع خاسرة، والتغلب على التحديات الشرسة في بيئة الأعمال المتغيرة. والأهم من ذلك أنهم يدركون أن التقدم لا يتعلق بفعل المزيد، بل بفعل ما هو ضروري في الوقت المناسب.
ولكن المسئولية الأشد تقع على عاتق أصحاب المصلحة والمستثمرين في الشركات والمشاريع من خلال تطبيق نظام مراجعة صارم ودقيق بعيداً عن المجاملات والتعقيد لضمان وبشكل مستمر يسجل أي حيود عن الأهداف المخطط لها بما يضمن سرعة اتخاذ القرار المناسب قبل “موت الحصان”.